(اليوم بلغت سن الأربعين)، كلمات سطرتها في مذكرتي الشخصية يوم أن بلغت الأربعين من العمر، وذلك قبل بضع سنوات، ثم نشرتها باقتضاب على صفحتي الشخصية على الفيس بوك، واستأذنني عدد من أقراني بعدها بأشهر لمشاركتها على صفحاتهم الشخصية عندما بلغوا الأربعين من العمر. وقبل أيام فاجئني صديق آخر يطلب مشاركتها أيضاً، وكنت قد نسيتها، فقررت أن أعيد صياغتها مرة أخرى، وأعيد نشرها لعل أحداً يستفيد منها.
اليوم بلغت سن الأربعين. اليوم يا أمي بت قادراً على إدراك كل نصائح الطفولة جملة واحدة. اليوم يا أبي عدت قادراً على تحمل المسؤولية وأعباء الحياة التي لطالما حدثتني عنها. اليوم صرت أنظر من قمة جبل الحياة الصلد وحيداً لما تبقى من العمر بخوف ووجل. اليوم صرت أرى أطياف طفولتي، وأحلام شبابي، وكأنها بالأمس، لكنها سرعان ما تتلاشي أمام ناظريَّ إلى غير رجعة معلنة الرحيل.
اليوم أشم نسائم الطفولة وعبقها الذكي في عيون أطفالي، وأجد سعادتي في سعادتهم، وحزني في حزنهم. اليوم بت قادراً على فهم الحياة، وبت قادراً على كبح جماح نفسي، وفهم الاختلاف الفكري بين الفئات العمرية المختلفة والمتباينة، وبت قادراً على معايشتها جميعاً، واحتوائها، والتماس الأعذار لها.
اليوم أدركت أن الشعر الأبيض دب في قلبي وروحي وقوتي قبل أن يسابقني إلى شعري ولحيتي. اليوم أدركت أن ورقة التقويم السنوي المعلقة على جدران المسجد والتي كنت أستطيع قراءتها من مسافة بعيدة -ربما من آخر المسجد-، لم أعد اليوم قادراً حتى على رؤيتها وأنا إلى جوارها. اليوم بت عاجزاً عن الركض خلف كل مغريات الحياة بقوة مثلما كنت أفعل فيما مضى من العمر. اليوم أدركت حقاً أنني أوشكت على الوصول إلى آخر الطريق، وأدركت مدى قربي من النهاية. فما بالك بمن بلغ سن الخمسين أو الستين؟ أو تخطى حاجز الثمانين والتسعين والمائة؟
اليوم بلغت سن الأربعين. كم هزتني هذه الآيات وأنا أطالعها اليوم بعينين مختلفتين، وأسمعها بأذنين مختلفتين. يقول الله تعالى في سورة الأحقاف :((حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)).
اكتشفت وأنا أسمعها بقلبي، وأتفحصها بعين بصيرتي، أن هذا السن هو السن الوحيد الذي اختصه الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء المؤثر الرقيق، والذي يحرك العقل والروح والمشاعر. فهو دعاء يتضمن الشكر عما مضى، والتوبة عما بدر، والدعاء للآتي وإعلان للولاء لهذا الدين، وتذكر للنفس وأصولها وفروعها. ففي هذه السن يدرك المرء حقيقة الأبوة، وأهمية البنوة، وحقيقة الوجود وغاية الخلق.
ويؤكد علماء الإسلام على أهمية هذا الدعاء وخاصة لمن بلغ سن الأربعين، وأنه سبب لقبول الأعمال. فقد قال سبحانه وتعالى بعد هذه الآية : ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ )).
واختصاص سن الأربعين بالذكر في هذه الآية الكريمة دليل على أنه سن استيفاء العقل والفهم بعد أن تكاملت حجة الله تعالى علينا، ورفع عنا جهالة الشباب، وطيش الطفولة، وعرفنا ما يجب علينا من الحقوق لله سبحانه وتعالى لخلقه إيانا وتفضله علينا بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات الصالحة، وأن يكثر من شكر النعم التي تفضل الله تعالى عليه بها، ويبذل ما بقي من عمره في طاعة الله .
وكنت قد قرأت في كتب التفسير أنه لم يُبعث نبيٌّ قط إلا بعد أربعين سنة، فأدركت لماذا بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في سن الأربعين؛ ذلك لأنه سن العقل والحكمة والنضوج الجسدي والفكري والروحي.
والعلم الحديث يثبت أنه في سن الأربعين تكتمل قدرات الإنسان العقلية والجسدية، وبعده تبدأ في التناقص، إذ أن ذروة قوة الإنسان تكون عندما يبلغ من العمر تسعة وثلاثين عاماً ميلادياً. وعند حساب هذا العمر بالسنوات القمرية فإنه يصبح أربعين سنة هجرية تقريباً.
وتؤكد الدراسات العلمية الحديثة على أنه بعد سن الأربعين يبدأ إفراز مادة المايلين Myelin في التناقص، مما يؤدي إلى انخفاض في نشاط الذاكرة، وحدوث مشاكل في القلب والأوعية الدموية، وتناقص في نشاط الجسم وقوته وشدته. ومهما حاول الإنسان فإنه لن يستطيع إيقاف هذا التدهور في قوته ونشاطه وصحته بعد سن الأربعين، حتى لو مارس الرياضة واتبع نظامًا غذائيًا محكماً.
فيجب على الإنسان بعد بلوغ سن الأربعين أن يهيئ نفسه لاختيار الأعمال المناسبة غير المرهقة، ويبدأ في انتقاء من يساعده في أعماله إن كان صاحب أعمال، ويبدأ بالتفكير جدياً في كيفية قضاء الباقي من عمره في راحة؛ متجنباً كل الضغوط البدنية والنفسية التي قد تؤثر على صحته قدر الإمكان.
عند بلوغك الأربعين، تجد من يفسح لك المكان، أو يقرب لك الكرسي، أو يقوم من مكانه ليجلسك، وتسمع للمرة الأولى من يناديك في الأماكن العامة: (تفضل يا عمي). ويا لها من كلمة مستغربة تشعرك بأنك أصبحت إنساناً آخر غير الذي كنت تعرفه. في سن الأربعين، يلتفت إليك من هم في الستين وما فوق ذلك ليقولوا لك: مازلت شاباً، فيزداد استغرابك لنفسك.
في سن الأربعين، تبدأ أزمة منتصف العمر، وتبدأ الأسئلة القاسية في الظهور كالإعلانات المتكررة أمام عينيك كل فترة، تراود ذهنك وتؤرق نومك، وتشغل فكرك وتحير نفسك؛ ما هي علاقته بربك؟ ما الذي أنجزته في حياتك؟ وما هي خططك المستقبلية لضمان استقرار أسرتك؟
في هذه السن نشعر وكأن الأيام تمضي أسرع مما نتوقع، فأثناء طفولتنا كنا ننظر لمن في الأربعين على أنهم شبعوا من دنياهم. أما اليوم فنرى أننا لم نحقق الكثير مما وضعناه لأنفسنا من خطط مستقبلية، وأحلام وردية، وأن السنوات تجري بنا ولا تعطينا فرصة لكي نصنع ونحقق ونحتفل بما نريد .
في سن الأربعين ندرك القيمة الحقيقية للأشياء الرائعة التي تحيط بنا. ننظر إلى والديْنا إذا كان كلاهما موجودين أو أحدهما، فنشعر بأنهما كنز حقيقي، وأن علينا أن نؤدي حقهما ونبرهما. ننظر إلى أبنائنا فنراهم قد غدوا كإخوان لنا ينتظرون صحبتنا .
ننظر إلى الإخوة والأصحاب فنشعر بسرور غامر لوجودهم حولنا، كما ننظر إلى تقصيرنا وأخطائنا فنرى أنها لا تليق بمن هو في سن الأربعين؛ حيث يفترض بنا فيه أن نُظهر قدراً أكبر من الوقار والحكمة والاتزان في القول والعمل.
في الأربعين يبدأ الحصاد، ونشعر بحقيقة أننا كنا كمن يلهث خلف السراب، ويزرع في صحراء جرداء لا نبات فيها ولا ماء، ينتظر الثمر، فلا يجد غير التعب والنصب والضجر.
تحية لكل من بلغ سن الأربعين، أو جاوزه، أو دنا منه. اقرأوها وشاركوها مع أصدقائكم، إلى أن نلتقي قريباً في سن الخمسين بإذن الله تعالى .
بقلم الكاتب / هاني نبيل عبد الحميد
wow thhats amazing
i would to been at this age
am young
Thank for your comment. Do not worry life is very fast rather than you expect !!!
يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق