ليس ثمة شك أن المسجد الجامع بإدفـو ألا وهو المسجد العمرى، عاصر المسجد مجموعة من العصور القديمة وحتى الوقت الحالى فهو شاهدا أثريا على أمجادنا عبر التاريخ، فقد كان فى عهد الفراعنة معبدا تُجرى فيه الطقوس الدينية المختلفة تقربا للآلهة، ويعقبه العصر البطلمى والرومانى، فيصير مقرا لإقامة الصلوات اليهودية وتلاوة نصوص العهد القديم وبدخول المسيحية يتطور إلى مبنى كنسى تتردد فى أرجائه الترانيم والتراتيل المتنوعة وكل ذلك حق فى الأيام الغابرة لأن كل رسالة كانت تنسخ سابقتها ويتشكل المبنى بها.
فتح مصر:
وتمضى الأيام وتمر الأعوام وتخضع مصر للفتح الإسلامى فى العام الثامن عشر للهجرة والواحد وأربعين وستمئة من الميلاد - الذى غير عادات وتقاليد المجتمع المصرى إلى إجتماعيات تحاكى ما أمر به القرآن الكريم والسُنة النبوية المشرفة، وحتى المعـمار تطور للطراز الإسلامى ومنه المسجد العـمرى، فأصبح يؤذن منه للصلاة، وأدخل عليه الفاتحون تجديدات تواكب الطبيعة الإسلامية من تحويل البرج إلى مئذنة، ومن ثم تحويره ليصير على نمط المساجد العـمرية الجامعة كجامع قوص وغيره من مساجد عتيقة كما أخبرنا المرحوم الأثرى عبد السلام مفتش الآثار الإسلامية.
وظل الجامع التالد بإدفـو خاضعا للنشاط الأهلى حتى عصر المماليك وفى العهد المملوكى الثانى وعلى وجه التحديد أيام السلطان الظاهر برقوق أحد السلاطين البرجية أمسى المسجد حكوميا معتمدا تابع للسلطنة والسلطات الدينية آنذاك.
تاريخ المسجد العَمْرى:
وتاريخ المسجد العـمرى يُضاهى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط بمصر القديمة مضافا إليه المسجد الطولونى، فقد تُليت فيه الأحاديث الشريفة من الإمام عبد الله بن وهب الإدفوى ت 197هـ صاحب مخطوط الجامع فى الأحاديث والذى عُثر عليه بإدفـو مكتوبا على ورق البردى والمحفوظ بدار الكتب المصرية، وكانت تعقد فيه الجلسات الفقهية ودروس القراءات والسماع فى القرآن الكريم بريادة الإمام محمد بن على بن أحمد بن محمد أبو بكر الإدفـوى رضى الله عنه ت 388هـ - 998م كلما سنحت له فرصة صلة الأرحام بزيارة الاقارب أو الحج عن طريق ميناء عيذاب قادما من القاهرة.
السلطان الظاهر برقوق:
وماثله أحفاده من بعـده الملقبين" بالإدفـوى" فقط دون الإفصاح عـن أسمائهم محتسبين وجه الله الكريم وقد سجلوا ذلك فى شواهدهم الحجرية التى منها اللوحة الأثرية المثبته بجدار على امتداد المحراب من يساره، والمؤرخة بعام 797هـ -1395م مُسجل بها إسم السلطان الظاهر برقوق وألقابه المولوية ثم كنية "الإدفـوى" مع إخفاء الإسم كما ذكرت آنفا ليعـبر عن كل الذين تصدوا للتدريس بصحـن المسجد من العلماء الأفاضل عبر الأزمان.
ومن الأبناء والأحفاد أبو القاسم أو أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الإدفوى من المحدثين وأخيه أبو القاسم أحمد مقرىء ومفسر للقرآن برواية ورش ومعهم أبو عبد الله أبو الحسين بن جعفر الكللى.
التيمن بالأجداد الأدارسة:
ويذكر أن الإمام الإدفوى رحمه الله دائما يُكنى أبناءه جميعا بأبى القاسم وأبى محمد بجانب أسماءهم الحقيقية تيمنا بأجدادهم الأدارسة القواسم حُكِّام ولاية طنجة بالمغـرب الأقصى، علما بأن أبناء الإمام كثيرون منهم من اتجه للعـلم وأنتج فخلدهم التاريخ فى المصادر الورقية القديمة، ومنهم من اتجه للعمل بأرضه وزراعته فلم يُذكروا فى المصادر القديمة ولكن خلدتهم شهادات أنسابهم بنقابات الأشراف المختلفة ومنهم من اتجه للزهد والتقشف وترك لأبنائه التسجيل وموالاة النسب الشريف لكونهم سادة أشراف حسنيين، فضلا بأن جذورهم تعود للإمام عبد الله المحض بن الحسن المثنى وبذلك شرُف بجمع نسب الحسن والحسين بزواجه من إبنة عمه الفاضلة الشريفة العفيفةالسيدة "فاطمة بنت الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم التى من أبنائها "عبد الله " ولقبه المحض ـ لقرب شبهه بجده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والكامل لكمال نسبه من الجهتين الشريفتين، والمنتخب لترشيح أبى سلمة الخلال عن الشيعة له مع جعفر الصادق وعمه عمر إبنا الإمام الحسين رضى الله عنه؛ ليكون منهم خليفة على المسلمين قبل الدولة العباسية ــ والذى بدوره من أبنائه الإمام " إدريس الأكبر" وإبنه" إدريس الأصغـر" ومن سلالته الإمام محمد المتولى الإدفـوى شريف عن شريف وكابر عن كابر.
أبناء وأحفاد الإمام الإدفــوى:
وتدور الأيام ويمكث أبناء الإدفـوى وأحفاده بإدفـو منهم الإمام محمد النور الفقيه وما يعرف من أبنائه ولى الله عبد القادرالفقى ونجله دهب، والشيخ محمد الفاخر ومن أبنائه العارف بالله أبو القاسم الصباغ فاخر ، ومحمد السعـدى( الفقير) وما يعرف من أبنائه الولى الشيخ جبريل ولقبه أبو الخشوم ،والشيخ محمود الأدهم ويسكنون بمنطقتهم المعروفة بالشيخ محمود.
ويبدو أن هناك هجرات من الأشراف تمت من بلاد الحجاز ومن المعلاة قرب مكة المكرمة والثعلبية من وادى الليث قربها أيضا إلى إدفو بجنوب صعيد مصر واختلطت بالسكان الأصليين، فضلا عن أن بعض الهجرات التى تمت كانت من المغرب الأقصى إلى ليبيا ثم التكتل بالبهنسا الغراء بإقليم المنيا فقد كان بها أقوى الأسواروالحصون ومما يدل على ذلك ما سجله "الواقدى" من أن العرب إذا امتلكوا البهنسا ملكوا الصعيد بأثره فتحرك السادة الأدارسة السنوسية متفرعين من البهنسا بسبب جدبها فى ذلك الوقت وبعدها عن نهر النيل وأنها إقليم صحراوى جاف قُرب الحدود الليبية – فمنهم من إتجه للوجه البحرى شمالا وقطنوا فى الإقـليم الساحلى قرب الإسكندرية مثل عائلة المُنيِّر، فانتشروا على الساحل الشمالى شرقا وغربا لحماية مصر على الحدود الغربية.
وآخرون استقروا بوسط الصعـيد بسوهاج وأسيوط ثم بالصعيد الأعلى بقنا وقوص وإدفــو وأسوان كعائلة الإمام محمد الإدفـوى الذين دفعتهم طموحاتهم العلمية وبحثهم عن العلم والعلماء فمنهم من هاجر للفسطاط ومن ثم للقاهرة واستقروا فيها بعد إعقابهم بإدفـو ومدن الصعـيد حيث الزراعة والماء والكلأ والمعيشة المستقرة وقربهم من نهر النيل شريان الحياة النابض لهم.
ومن أسباب الهجرات العربية نقسمها لأفرع عديدة فالمهاجرون من المشرق كانت هجراتهم إما لجفاف الجزيرة وقسوة مُناخها أو للتجارة عن طريق البحر الأحمر فتستقر فى قفط قديما ووجدت نقوش على صخرة قرب إدفو منقوش عليها صورة حاكم وهو يرسل كتائب من جيشه لصد هجوم هؤلاء العرب، أو للفتح الإسلامى لمصر والإستقرار بالفسطاط حول مسجد عمرو بن العاص ومن ثم المرتبع القبلى وتنقلهم فى فصل الربيع بأرجاء مصر والمكث فى الأقاليم التى تعجبهم لمدة ثلاثة أشهر ثم الإستقرار نهائيا فيما بعـد.
والمهاجرون من الغرب كان بسبب الحج عبر مصر من ميناء عيذاب على البحر الأحمر قرب حميثرة أو من الطريق الساحلى بشبه جزيرة سيناء أو الفرار بعد سقوط الدولة الإدريسية وتجنب الإضطهاد السياسى أو للتجارة عبر البلاد وقيام الدولة الفاطمية بعد انتقالها من إفريقيا (تونس)، فمنذ القرن الرابع الهجرى صارت عيذاب المركز الرئيسى للنشاط التجارى عبر البحر الأحمر وظلت تتمتع بذلك حتى بداية القرن التاسع الهجرى.
أما بقية الهجرات العربية فكانت لجنوب الصعيد بالتطوع لحماية الحدود الجنوبية عند أسوان والبحث عن الذهب والصراع العربى مع النازحين من شمال السودان، فقد كانت معاهدة "البقط" بين عبد الله بن سعد والنوبيين مهدت لسيطرة العرب على "دنقلة" مقر النوبيين بشمال السودان وبحملة العرب عليها فى 31 هـ بعشرين ألفا من قبيلة بلى "اليمنية ثم جهينة وقبيلة ربيعة ومنه بنو الكنز ،وقد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين النوبيين والعرب بقوله:" من لم يكن له أخ فليتخذ اخا من النوبة" وقال" خير سبيكم النوبة" وقال :" وللنوبة كف ووفاء وحسن عهد")[1](
وترجع هجرة الأشراف الجعافرة إلى الصعيد وخصوصا أسوان إلى إنهزامهم مع بنو عمومتهم أبناء الحسن فى المدينة المنورة زمن الدولة الأموية، وهجرة على بن محمد بن الحسن بن على عام 145هـ من بطش الدولة العباسية واختفى بقرية طوخ الخيل بالأشمونيين بالمنيا وتزوج هناك واعقب.
ومن أسباب الهجرة أنه عظم وضع الفارسيون والأتراك فى ظل الدولة العباسية مما أدى إلى تصاغر دور العرب والإعتماد عليهم فى تسيير أمور الخلافة
فقرر المتوكل العباسى عام 232هـ- 247هـ بأمره صاحب مصر " إسحاق بن يحيى" 235هـ-236هـ بترحيل العلويين من الفسطاط للعراق ومنه للمدينة المنورة فى رجب236هـ فخشية ذلك الترحيل هرب الجميع إلى صعيد مصر باسوان عموما وإدفـو خصوصا.
وأمر الخليفة العباسى المعتصم إسقاط العرب من ( الديوان) وقطع إعطياتهم عام 218هـ ونفذه " كيدر بن نصر" حاكم مصر ذالحين؛ فهربوا إلى الصعيد واعتمدوا على أنفسهم بالعمل فى الزراعة والتجارة والصناعة واحتكوا بالمصريين عن قرب وذهب العلماء منهم للبهنسا الغراء بالمنيا لتعليم المصريين أمور الإسلام وكل من يريد معرفة أمور دينه من فقه وتفسير وحديث كان يذهب إليهم فى البلدة المذكورة آنفا لأنهم كانوا لا يتخطونها لبلاد أخرى.
المراجع:
(1)- دورالقبائل العربية فى صعيد مصرللدكتور ممدوح عبد الرحمن الريطى صـ51
يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق