ليس ثمة شك أن الشارع الطويل بدءا من الجامع العمري بإدفو يمتد طوله حتى واجهة إدفوالحديثة مارا بمقام وضريح الإمام الشيخ محمد الإدفوى الإدريسي، فذلك الشارع نظرا لامتداده يُسمونه بحي "الطوالة"، فهو يُمثل إدفو القديمة لكونه تتفرع منه شوارع متعددة، منها ما يؤدي إلى معبد بطليموس المفتتح رسميا في 42ق. م، ومنها ما يؤدي إلى الجبانة التي يُدفن بها الأموات منذ الأزل حاوية بين جنباتها "الصمت الأبدي"، ومنها ما يؤدي إلى سوق "القيسارية" أقدم أسواق مصر يموج بحركة البائعين ونداءاتهم، وعود للمستهل، يجاور مبنى الإمام حارة ضيقه وقصيرة تدلف منها إلى خلفية المقام ثم إلى حارة أقصر توصلك لمعبد إدفو الشامخ.
نسج الأكاليم وصناعتها
وكان في تلك الحارة أسرة طيبة تعمل في صناعة النسج اليدوي " الأكاليم " الشبيهة بالسجاد الآن، تبسط في طرقات البيوت وصالاتها وهي صالحة لكل مجلس حيث إنها على الأرائك تُفرش.
ولصناعة تلك الأكاليم ، كان الناس يمزقون الملابس القديمة المستعملة إلى "أشرطة" ثم يلفونها حتى تُكَوِّن ما يشبه الكرة فقط من الشرائط، ويذهبون بها إلى حارة الإدفوى "ليعطوها لتلك الأسرة المتخصصة في هذه المهنة لنسج" الأكاليم "منها، ولا يتقاضون ثمنا عليها سِوى أتعابهم، وكل ذلك يتم ببركة الشيخ الإدفوى فضلا عن نسج اَلْبَرَد الصوف السوداء للنسوة، وهي بمثابة العباية يلتففن بها النساء من قمة رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن، ناهيك من نسج الأغطية الثقيلة.
البردة الحمراء
تصنع من وبر الأغنام فتصير أغطية بُنية اللون يسمونها" البردة الحمراء "وهي أفضل من البطاطين الصوف حاليا، تقى الناس زمهرير الشتاء وبرده القارس، هكذا كانت تنسج" الدبابة "عليها الرحمة وهو اسم الناسجة التي كانت تستلم المواد الخام للنسيج وهي مكتنزة اَلْخَصْر غليظة القوام، لو سارت على شخص لقتلته، لتقوم هي وأسرتها بنسجه كما ذكرت آنفا، فهي ذكريات تعود لستين عاما مضت ولكنها مهن يدوية اندثرت الآن.
فهي الذكريات فقد كنت قديما، أسير في تلك الحارة ظهرا وهي مبخوخة بالمياه، فيصير التراب رطبا وتكثر بها الفراشات ذات الألوان الزاهية، فتستهويني للتربص بها واصطيادها فتُنهك قواي في اللهث ركضا ورائها إلى أن أصطاد واحدة أتأمل في زهائها ونضارتها وهي تُحَرِّك جناحيها فتنفض ما بها من" بودرة "الألوان مُلَطَّخَة يدي بها فتنمحي منها فأفلتها للبحث عن أُخرى تكون مُلوَّنة، وينسيني المشي خلفها وتركيز يدي وسرعتها للإمساك بها – حرارة الطقس وقيظه فأذهب معها أينما كانت وإما حظيت بها أو لم أحظ.
وذات صباح جلبتنى فراشة فى الشارع الرئيسى للزقاق وكانت نهايته على نهر النيل فركضت خلفها لقبضه؛ فحاورتنى، وراحت تتفلت مني هنا وهناك، ويجذبنى الأمل فى الظفر بها، وكانت الفراشة فطِنة وكأنها تريد الإنتقام مني لمحاولتى اصطيادها فراحت تفِر، وأنا وراءها إلى أن وصلت للنهر.
وكان به درج للنزول لعوامة رأسية في الماء، نجتازها لركوب المراكب الشراعية، فهبطت الدرج خلفها إلى أن حوَّمت على ماء النهر، وكأنها تجذبنى لها لاستكمال عقابها، فتوقفت عنها لأني بلا وعي سأسقط فى الماء غريقا بسببها، فعُدت أدراجى من حيث أتيت خالى الوفاض، وتركتها تتبختر متطايرة على صفحات الماء في عمقه الرقراق وتذكرت قوله تبارك وتعالى:" ويُلههم الأمل؛ فسوف يعلمون ".
بجوار النيل
فقد كانت مدينتنا صغيرة تربض بها حارة الإدفوى يحتضنها النيل، وبجواره بيتنا الكبير بفنائه الواسع، وعندما تشدك عيناك إلى الركن القصي، تجد" الطابونة "التى يصنعن بهانسوة البيت" الملتوت "وهو المعجون من الدقيق والماء، ثم يجزئونه ويقرصونه ويضعونه على" الدِوار "بعد أن يضعوا عليها قليلا من النخالة بما يطلق عليه (يُتفِّلونها) حتى لا يلتصق العجين" بالدورة "والأخيرة دائرية الشكل تُصنع من طين مخصص، خصِّيصا لوضع مُقرصات العجين عليها ووضعها في ضوء الشمس ليختمِر.
الطابونة
وتجلس إحداهن بجوار" الطابونة "الموجودة في منتصفها صينية طينية بها فتحة لصعود اللهب إليها والمستعِّرة النار بأسفلها؛ فتقوم تلك المرأة بإضرامها بأخشاب الشجر والتِبن وما شابهه، وتُقلِّب هذه النيران بسيخ حديدى بنهايته إلتواء يسمونه" المِحساس "فضلا عن سحب الأرغف به ثم بعد هدوء النيران تعمل على جس الصينية المذكورة آنفا بعصا طويلة بنهايتها فتائل من القماش المرطب بالماء يُطلقون عليها" الفوَّادة "لتنظيف تلك الصينية تمهيدا لوضع أقراص الخبز المُختَمِرة عليها لإنضاجها باحتوائها على خشبة مدوَّرة بحجم" رغيف الخبز "وهي مُمْتدة بعصا طويلة يسمونها المطرحة" لطرح الأرغف داخل "الفُرن" وهكذا إلى أن تمتلىء الصينية بعدد معين من الأرغفة حتى النضج على نار هادئة.
ويخرجونها بعد ذلك ويدخلون طريحة أُخرى، وبالفُرن فتحة جانبية لإخراج الدُخان، وأخرى علوية يوضع عليها إما معجون البلح ليصير مربى وطعام للآكلين، وفي فوهة أسفل الفرن تضع "المِلَز" وهو إناء فخارى يوضع به نوع واحد من البقوليات للغذاء منه بعد نضجه.
فكان تعاون مابين النسوة ربات البيت منهن من تعجن وأخرى تُقَرِّص وتتفل وتضع على "الدوار" وثالثة تُشعل الفرن بالوقيد ثم تدخل "العيش" وتخرجه بعد نضجه هلم جرا، ومن يجوع من الأبناء والبنات يعطونه "تصبيرة" عبارة عن نصف رغيف به كثير من "السمن البلدى" مختلط بالسكر لحين الفراغ من نضج العدس أو الفول أو إحدى البقوليات لتناوله بعد نهاية الصنيع.
يجب تسجيل الدخول لإضافة تعليق